لا تُحدِّث الموجوعَ عن وجَعه فهو يعلمُه، ولا تشرح له الأسباب فهذا مَقيت، شِفاءُ الموجوع أن تصحبه، وتُساكِنه، وترتحل به، أن تسكُب فيه الآمال، ويجدك معه مُقتسِما، وفي أزْره مُنتظِما، رُوح الموجوع كالأرضِ البَوار، متى سقيتها أوجَبَت لك مُلكها ..

للمُحبِّ قلبٌ جلَّ عن شبَه غيره، فكم فيه من الوجد، والعطف، والأشواق، وجُهد الأحزان، وهذا مجموعٌ ترى المُحبَّ معه شاردًا، مُنفردًا، مشَّاءًا في البيداء، يذكر زمانًا قبل النَّوى، ويُطيل النظر إلى الآفاق، جليسُ زهر فوَّاح، ونديمُ قمر وضَّاح، تُؤنسه وِحدته، كأنه حمَل أوطانه واغترب ..

الصديقُ من اجتهد في نفعك، ثم راجع نفسه عن رِفْده لك، ثم جاءه خاطرُ أنه قصَّر من وجه، حتى إذا استَحكَم له معروفه استبشر بالتمام، واغتبَط بالإنعام، وطرِب لسُرورك، فإن تأمَّلت وجدت أنَّ هذا الحال لا يقوم به المرءُ إلَّا لنفسه، فدلَّ على أنَّ الصديق الحقَّ صِنْو نفسك، وبعضُ كُلِّك ..

إني أُحبكِ على التجديد، فألبسُ ثوبَ أول لقاء، وأتحرَّى هِلالًا كانت فيه الموعدة، وأقصِدُ طريقًا مشيناه معًا، وأتعاهدُ سِرًّا كتمْناه بيننا، وأرعى آصِرةً فيها أمانُكِ، وأستعيذُ من عيشٍ دُونكِ، وأراكِ في غمْض عيني، وأستحفِظكِ ضميري، وفي تدانينا الرجا، وبكِ اشتمالي، واتصالُ آمالي ..

الفراقُ نوعان: فراقُ موت وآخَر في الحياة، فالأول مقطوعة فيه حبالُه، ومُنتهية عنده آمالُه، وهذا قُدِّر تقديرا، أما الثاني فيشتدُّ لطول الزمان، وخُلو الديار والأوطان، وارتِقابك أن تجد خبرا، أو تصدِف أثرا، وتُبقيك الأشواق في هزَّة، وتُصغِي لحُزنك فإن له أزَّة، ولا شِفا إلا باللقا ..

الحُب متى زادت عِفَّته زادت لذَّته، لأن الحُب سِرٌّ يشرُف أمره، ويُرفع قدره، فلا يُباح به إلَّا بعد أزمان من طيِّه في القلب، وإضماره تحت اللسان، وانتظار فُرصة الوقت، وهذا كافٍ في نُضج المحبة، ودليل صدقها، وجِدِّ قصدها، والعفَّةُ هي حاكمُ هذا كُلِّه، والقائمة عليه، والرسول إليه ..

تأمَّلتُ رسائلَ الأوَّلين والآخِرين، وما صدَح الشُعراء في قوافِيهم، وترنُّم الأُدباء في نوادِيهم، فإذا هُم يتخيَّلونكِ وما قاربُوا حقيقتكِ، ويُشبِّهونكِ وما اسْتَوفُوا في الحُسن طريقتكِ، وهل تُوجَز السحائب بقطرة، أو تُوصَف الأيكةُ بثمرة، فإن أردتِ الحقَّ فهو حِكاية القلب للقلب ..

المحزون كثيرُ السكتات، قليلُ اللقاء، نظرتُه هائمة، وفِكرتُه قائمة، تفضحُه دمعتُه، وتُبطئ به كلمتُه، قد رقَّقت أوجاعُه فُؤاده، واستيأس آماله وإسعاده، واللهُ وليُّ قلبه ونفسه، وكفيلُ إبداله وأُنسِه ..

الشوقُ بئسُ زائر، والعينُ في نُطقها أفصح من اللسان، والمُحبُّ قريبٌ ولو عزَّ التلاقي، والكلامُ زُخرُفه في لُطفه، وما أتلَف شيءٌ شيئًا كالجفاء بعد وِدٍّ، وأثَرُ الصبابة في القلب كأثرِ الحارِث في الأرض، والمودَّةُ أيامٌ لا يُنقِصُها إلَّا العتَب ..

حسرة الكريم على نفسه تكون من جهة إغضاء أهل زمانه عن قدره، وغُربة مذهبه الجميل، وشُحِّ الرفيق القديم، وحمله راية العهد الأول، ولا مُعين له، أو ساند معه، فإن حاول مُجاراة هذا الوقت تعثَّر باختلاف العادة، وأصابه تكلُّف الطباع، فإذا رأيت الناس ففتِّش عن الغمْر بينهم لعلَّه أحسنهُم ..

ترى المُحبَّ بين الناس مشغولًا بهم، ضاحكًا لهم، آنِسًا معهم، حتى إذا اختلى بنفسه حاطَت به أشواقه، وفرَّ منه قلبُه، واستهلَّت عينُه، لأنَّ للمحبِّين قلوبًا تتفطَّر، وخُلوتها تُذيبها، وترجو غيب مطلوبها، فإذا لقيت من هذه صِفته فاستعمل الرأفة معه، فإنَّما أتى إليك من أمر عظيم ..

جُملة "رضا الناس غاية لا تُدرك" صحيحة مليحة، لأنك لو تأملت وجدت الناس يختلفون في العقل والطبع والحال، تلقى الرزين والسفيه، والمُجرِّب والغِرَّ، والمُتأنِّي والعجول، والحريص والمُفرِّط، فكُلُّ هؤلاء أضداد لا يجمعهم رأي، ولا طريقة، أو إرادة، فالقاصدُ رِضاهم كالمُهدي ثوبًا لاثنين ..

إنَّ من الناس شفيفَ قلب، رقيقَ طبع، باذلًا حاله لغيره، صارِفًا مودته له، فيلقى خسيسًا ينتهِزُ قلبه، ويتحيَّنُ عطفه، حتى إذا استنضب منه مضى عنه، فيرتدُّ الأول على نفسه، ويجِفُّ بعد إبلال، ويُغلِق كُلَّ باب، ورُبما تشرَّر، لكن يجد في قلبه بِطانة رِقَّة، وإرثَ رحمة، فوا أسفا عليه ..

إن في قلبي شُغلًا عليك، ومُنًى لا تكون حاجتُها إلَّا إليك، وبُعدك المأسوف يُضنِي، ولأيَّامي -لا للأشواق- يُفنِي، يا مُوافِق رُوحي واجتماعُنا عِطرا، وتحقيق أُنسِي حين تعاهدنا الوصل دهرا، كُنت ليَ الصِّبا وبنيتُ من الآمال أسوارا، ثُم انثنى التفرُّق فبكيتُ الحُبَّ سِرًّا وجِهارا ..

ما استغنيت بأحدٍ عن الناس إلا لاشتماله محاسنهم، فإنَّ في الناس ذا الرأفة، والبسام، والمُؤيد، والمأمون، وآنِس الجوار، فحوَى جَليَّ أوصافهم، وجنَى حَليَّ قطافهم، فهذا لا يكون زمانك به إلا هنيَّا، وليالي وِصاله ضَيٌّ كالبدر سنيَّا، ويا سعد من كان خِلُّه، وغُصنُه المُورَّد وظِلُّه ..

نطقتُ الشوقَ شوْكًا، فأخطأتُ لفظًا وأصبتُ معنى ..

يا لهفي على أثرٍ دلَّ عليك، وطريقٍ أوصَل إليك، ودمعٍ للشوق فضَح، ووجْدٍ ثوى في القلب ما برَح، وديارٍ كُتِبَت عليها من الحُبِّ القوافي، ثُمَّ محتْها بعد الفِراق الهواطلُ والسَّوافِي، وزِنادٍ بعدك لا أقدحُه، ووِدادٍ في غيابك كيف أشرحُه، يا مِداد حبائلي، وسهَرِي ومقصود رسائلي ..

كانت غنيَّة نفسٍ، كفيَّة حال، فيها كِبْر الأنثى وتحبُّبها، ولها طبعٌ كالطير يسكُن على يدي ثم تخفِقُ عواليا، وإقبالُها كالمطر، وتُطرِبُ بغير وتر، وهي كالسراب لا تُدرَك، وتُشبه الأحلام فلا تُترَك، واشتياق الرُّبى إلى نسيمها وريَّاها، واستتارُ البدرِ حين أسفر مُحيَّاها ..

الجنَّةُ سرور مُتصل، وعافيةٌ تنضح، وإقامةٌ على النَّعماء، ومُستراحٌ آبِد، ومُنفسحٌ يزداد، ورُبوعٌ اخضلَّت، وشدْوٌ فاتن، ونسيمٌ يتدفَّق، والأماني عجلى بالتحقيق، وأفراحٌ تتلاحق، ومُلكٌ ثابت، ولقاءٌ مديد، وأُنسٌ مغروس، وأوقاتهُا مُعطَّرة، ومحاسنُها تعاجيب، وحالُها قُضِيَ بالتخليد ..

من لي بصديقٍ يُشاطر الفِكر، ويبتدي بالجذل، ويأتي في المُهمِّات، وحِكايته برْدُ آمال، والسِرُّ في ودائعه، وتذخُرُه للأيام، ويصطفيك بالبشارة، وغيابه الأشواق، ويعود كما عرفته، ومُساندته كالأنامل للكفِّ، ويبقى على الثقة، وفي وحشتك هو الجماعة ..