"لياليّ، بعد الظاعنين شكولُ"
يشير المتنبي إلى تشاكل الأيام بعد فراق الأحبة، إن أول ما يفعله فراق الحبيب، أن يجعل علاقة الإنسان بالزمن علاقة محايدة، تفقد الأوقات خصوصياتها، ويصبح كل شيء يشبه كل شيء، حالة من السكون شخّصها أبو صخر الهذلي حين قال:
"فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر.."
كتب نيتشه في رسائله لصديق له:
"ها قد اختفى أخيرا النفور الذي طال بيننا، فكلانا يستخدم اللغة نفسها، ولا نشعر بأشياء مختلفة لدى استخدامنا نفس الكلمات."
من أبواب الألفة، الإحساس المشترك باللغة، الشعور بوقْع الكلمة، والتشبّع بمعنى المفردة.. الفهم اللغوي من دوافع الثقة بالآخر.
فكرة "الفور يو" بتويتر وأظن مثلها الاكسبلور في البرامج الأخرى غالبا معمولة لتخاطب العقل البدائي داخلك، الجانب المظلم منك، أشياء تحرض جانبا مرذولا في أعماقك.. هناك جزء رديء من نفسك تغريه متابعة ماهو سطحي وتافه ومبتذل، وسائل التواصل تعتاش على ملامسة هذا الجانب.
لطالما آمنت بقيمة الإخفاء وعدم الإفصاح وانتقاء ما يُقال، أكثر من إيماني بقيمة الفضفضة، والصراحة، والعفوية بالكلام.. هناك دائما أشياء لا يجب أن تقال، أشياء يجب أن تبقى مخفية حتى عن أقرب الناس لك وأحبهم إليك، بل بالذات معهم.
ضريبة الاستئناس بالعزلة والامتلاء بها، هو النفور من كل رفقة لا تحقق مثل هذا الامتلاء..في رواية عندما بكى نيتشه، جاء على لسان نيتشه:
“أنا أكره الذين يسلبون وحدتي مني، ومع ذلك، فهم لا يقدمون لي صحبة حقيقية.!”
معضلة أن يكون كل اجتماع عادي في حالة مقارنة دائمة مع عزلة ثرية.
عن الحنين الغامض للحظة ضاربة في عمق الذاكرة، عن الاشتياق الغريب لشيء قديم بلا ملامح.. حالة من العاطفة الحميمة تنبعث بلا هدف ولا غاية، لحظة شعورية كثيفة تُحس ولا تُعرف.. ربما هو موقف وجودي أكثر من كونه حالة تذكرية، حنين غير محدد، اشتياق أعمق وأكثر أصالة من كل اشتياق واضح ومعهود.
غالبا الإنسان الظريف يجي بكج كامل من الأخلاقيات الحلوة والطبع الجميل، الظرافة ملكة إن امتلكها الإنسان انطبعت على جميع سلوكه ومظاهره. حين تكلم القدماء عن فن الظرف اشترطوا لها صفات متنوعة منها الفصاحة وحسن الهيئة والفطنة والحياء. أي أن الظرافة ذوق وحس جمالي يغطي جميع جوانب الإنسان.
الضحك الحقيقي مع إنسان من أرسخ علامات قبولك له، حين تبغض شخصا فآخر ما يمكن أن تفعله أن تضحك معه ضحكا صادقا.. الضحك تعبير روحي عميق عن الارتياح والتقبّل، شكل من أشكال الانفتاح والشعور بالأريحية.
خشية من أن يمسخنا عالم الترند، أن يحولنا إلى ذوات مبتذلة، نفكر بنفس الطريقة، نتداول ذات المواضيع، وتستثيرنا نفس الأشياء.. حين نقتصر على متابعة ماهو رائج يعني أن ندور في عالم فقير المعنى، أن نكرر بعضنا البعض.. التخفف من هذا العالم هو فرصة للاقتراب من وجود أكثر أصالة وأكثر صدقا.
أكثر أنواع الاشتياق بؤسا، أن تشتاق إلى روح قديمة فيك، أن تشعر بالفقد تجاه نفسك، تجاه شيء ما تبدّل في داخلك.. أن تغترب عن روحك، لا شيء أكثر وحشة من ألا تألف نفسك.
كتب نيتشه في رسائله لصديق له:
"إن اتفاقنا الآن بخصوص ريتشارد فاغنر، هو بمثابة دليل لا يقدر بثمن على انتمائنا بعضنا لبعض"
يحصل أن تنشأ الثقة بينك وبين أحدهم بسبب تشابه في مسألة ذوقية.. بعض الآراء الذوقية قد تكشف جزءا أصيلا من عقلية الإنسان ونوعية مزاجه وفكره.
في الليل تسري لدى الإنسان حالة من الرغبة في الانكشاف على النفس أو على الآخر، طاقة حميمية للبوح والإفضاء والرغبة في البُدُوّ، شيء من إرادة نزع الأقنعة واعتناق الصدق.. الليل، فرصة أخيرة للتخفف وتنقية الروح، طريقة لإزاحة ما علق في النفس.
لا ينكر الإنسان لذة الشهرة وغريزة الظهور وحُب أن يُعرف، ولكن ثمة لذة عميقة في أن يكون الإنسان مغمورا، في ألا يُعرف ولا يلفت النظر.. بداهة حالة عدم الشهرة حرمتنا من استشعار هذه النعمة، لا شيء يضاهي تجربة الاختفاء أن تغدو غير ملاحظ، أن تكون نفسك بكل صدق وأصالة واتزان.