كان مخيم الشاطئ على ساحل غزة يغرق في كل شتاء جراء تجمع مياه الأمطار من معظم المناطق في شوارعه. وبمجرد سماع مناشدات العائلات الغريقة كنا نرى صيادي المخيم وهم يسارعون للعوم بمراكبهم الصغيرة لإنقاذها من بين الزقاق. فيما اليوم، لا مراكب ولا صيادين ولا زقاق. ونازحون غرقى في مآسيهم.
يندثر واقع الإيواء في غزة كما لو حدث إخباري ممجوج، وكأن مشهد النزوح استقر عند خيمة منصوبة ونقطة تطعيم للأطفال. في حين أن المأساة وبعد قرابة العام، تعقدت بشكل لا يوصف ولا يزال النازحون يعانون الموت وشح المواد المنقذة للحياة ويتكدسون في خرق مهترئة لا تقي من حر الصيف ولا برد الشتاء.
نقل -مركز الثقل- العسكري والسياسي للحرب خارج غزّة، يعني أنّ إسرائيل اتخذت قرارها بتطبيع معاناة غزة، دون أن تُجبر على تقديم ثمنٍ سياسي على جرائمها واحتلالها المفتوح هناك. الحرب بالمعاناة هي أقسى مراحل الحروب وأكثرها مرارا واستنزافا.
كان الله بعون أهل الخيام من النازحين هذا الصبح، تساقط الأمطار لساعة أغرقهم، وأثقل كاهلهم بالهم والألم، لا أعرف ماذا سيفعلون عندما ندخل فصل الشتاء ببرده القارص، وأمطاره العاصفة، وهم يدخلون عامهم الثاني في الخيام، لنا الله.
ليست خياما وإنما خرق بالية. ليست مآوي وإنما معازل. ليس ساحلا بحريا وإنما جبهة حصار. ليس فصل شتاء كأي شتاء وإنما كارثة إنسانية جارفة. ليست سيولا وإنما خليط من الملوثات القاتلة. ليست مخيمات عشوائية وإنما عشرات الحفر الطينية التي ستنضح بخيام النازحين مع أول منخفض جوي.
تؤرقني الذكرى.. تلاحقني في كل مكان. أبحث عنكم في وجوه الناس وظلال الغيوم، في أحلامي وذكرياتنا، في منسك أمي ونهنهة تهجدها. أتوه ولا أعرف للدرب طريق، أسير مثخنا بالطعنات وها ذا أنا بروح ممزقة، تتقاطر أسى وغربة.
يا خواتي يا حبابي تعالوا لو مرة.. وطيّبوا الخاطر
"صوملة غزة" لم يكن إجراء وإنما نهج صمم لدوامه، بدءا من تغييب مظهر النظام ودلائله، وإنهاك المجتمع وتفكيكه وبعث أرواح -الجنرال عيديد- في كل مكان. هذا النهج تحديدا هو جسر العبور إلى المعزل. إما أن يجد المرء رغيف الخبز بممالأة أمراء الحرب أو أن يتلقفه من نافذة الطعام في باب الزنزانة.
يغيب الكلام السياسي بشكل شبه تام في اتفاق وقف النار بغزة بمراحله المتعاقبة، وحين تعطل السياسة فإن هذا المكان يكون قد ترك لمصيره المجهول، بين اللا حرب واللا هدوء، اللا موت واللا حياة. حين تنسحب آخر مجنزرة هنالك في الأفق، سيكون الفراغ بحرا تلطم أمواجه جزيرة الركام بالمآسي والنكبات.
مشاعر الحزن التي ألمت بأهالي رفح حين عودتهم للمدينة المدمرة شابهت مشاعر أهالي خانيونس عقب تدميرها. وعودة النازحين إلى شمال غزة ستكون هي المرة الأولى التي يلتقوا فيها بمدن الركام ويحتكوا بواقعها ويعايشوها. هي حقّا صدمة إنسانية مدوّية، غارقة بمشاعر الأسى والتيه.
المحاذير من مساعي تمديد المرحلة الأولى من اتفاق الإطار هي أن تعلق غزة في هذه المساحة العازلة، ويصبح انغلاق الأفق السياسي المنظور مصلحة مقبولة للجميع؛ للإفلات من استحقاقات اليوم التالي. فيما تصير عملية التفاوض حول الأزمة الإنسانية وتطبيعها مجرد إدارة آمنة للجمود السياسي.