على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ:
على هذه الأرض سيدة الأرض،
أم البدايات أم النهايات.
كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة
أعود من العمل متعبًا، أحدّق في الفراغ. يرن الهاتف. امرأة مسنّة، تناشدني كي أسعى خلف مستحقّات ابنها المريض.
اتصال آخر؛ جندي يطلب إجازة يومين، بدعوى مرض والدته. والدته؟ ألم تمت قبل عامين؟ لا يهم. يجب أن نبجّل الأمهات دائما.
أعود إلى الفراغ، لا شيء تغير سوى حنين طارئ إلى قهوة أمي.
اننا كشرقيين نعتد بالاشياء المغلقه، بيوتنا مغلقه، وثقافتنا مغلقه، وحتى النساء يكنّ اجمل وهن مغلفات بالعذرية.
إلا إن الأمر لا ينطبق على غادة، فأنها ورغم زواجها، وأمومتها؛ ماتزال أجمل النساء، إنها ليست مغلفة بالعذرية، ورغم ذلك، لا أواجه تحدي حين أطوع شرقيتي في سبيلها.
زلازل وموت، وفقرٌ تغصّ به خارطة الوطن العربي.
حروبٌ في كل مكان، في كل بلد، وفي كل ساحة.
بشرٌ ينتشون العار، ومثقفون يسجدون في محراب أمريكا، وآخرون يركعون لإيران.
وساسةٌ يبيعون آخر مواطنٍ يملكونه.
أعود من العمل. أجلس أمام التلفاز، أتابع قنوات الأخبار. مزيد من الهزائم.
يظهر تقرير عاجل عن جبل لبنان.
لبنان! وطن سُلاف. كم مضى ولم نتحدث.
هل لا تزال على قيد الحياة؟ أم أن الحرب قد ابتلعتها؟
أشعر بالحنين إلى ذاك المساء الشاتي.
عندما عانقتني بين يديها؛ لتخبرني أنها راحلة إلى وطنها.
أمام بوابة مستشفى الملك فهد، بينما يغادر الأطباء إلى منازلهم، اجتاحتني الذكرى.
ذكرى “منى”
دكتورة الأطفال اليافعة، النابضة بالحياة.
كم من الليالي المطمئنة تشاركناها،
نعبُر شوارع الرياض في سيارة واحدة،
نتقاسم القهوة والموسيقى،
ونتحدث عن كل ما في هذا العالم،
صوتُ الكلاب حاضرٌ هنا، تزامنًا مع صوت الضباع في داخلي.
الهدوءُ يولِّد الضجيج في مفارقة تشقّ طريقَها إلى روحي.
وحدها ذكرى قديمة لغادة تطلّ بنورها وسط هذا الخراب، تدنو، تقف أمامي، تُدثرني.
تهمس في أذني: ليتنا لم نكبر، وليتنا بقينا طالبين في جامعة الملك سعود، حيث وُلدت أحلامنا معًا.
صباح اليوم، رأيتني في الحلم طفلًا صغيرًا، أركض في حديقة الحي بطائرة شراعية،
أنتعل المداس الأخضر الذي اشتراه لي أبي في أول سنة دراسية.
أهرول بين الأشجار، وأمي تصفق لي.
تمدّدتُ في قلب لعبة حديدية،أشعة الشمس تتسلل
إلى أسناني اللبنية،
وأنا أضحك..
كنت سعيدًا، لأول مرة منذ زمنًا طويل.
المطر ينهر، فأتذكر غادة، تلك الغاوية.
يعود إلى مسامعي صوتها، وهي تغني: تملي معاك. حينها كنّا نراقب نجد من نافذة سيارتي، بينما هي تتسلل إلى حجري، تفتح أزرة عبائتها، وتقدم جسدها لي بشبق. تهمس في عنقي: أخبرني بأنني ما أزال لعبتك المفضلة.
المطر يبلل روحي، بينما تركل الذكريات سكينتي.
اكتشفتُ في النهاية، وسط ضجّة صمت الليل، أنه لا فرق بين أن يحبّك الناس أو ألّا يحبّوك.
هذا ما قاله سائق الأجرة البارحة، وهو يشمّر عن أكمامه كاشفًا آثار الجلطة التي أصابته قبل سنوات.
نعم، هذا هو الأمر ببساطته وتعقيده.
ولذا،ينبغي أن نتساءل: كم من الوقت يحتاج الإنسان ليدرك هذا العبث؟
ليس لأحد الحق في البكاء على موت إنسان آخر. الجميع يموت في النهاية.
هذا ما خطر ببالي وأنا أقرأ نهاية وينستون في رواية 1984.
وينستون الطيّب، الذي اغتيل بأشدّ أنواع الاغتيال، لأنه أراد أن يحب، أن يمارس الجنس، وأن يسير في الطرقات مساءً برفقة امرأته.
هذا ما حدثَ إبّان صلاةِ الفجرِ لهذا اليوم.
في لحظةِ سكون، وبينَ المصلين، شقّ صوتُ غادةٍ الحضورَ الإلهيَّ إلى أذني.
كيف عاد؟ ألم أطرده آلافَ المرّات؟
حين أنهيتُ صلاتي وعدتُ إلى غرفتي، غفوتُ.
فرأيتُها في المنامِ تحمل مسدسًا.
تسلّقتْ جسدي المرهق، نكحته، ثم أطلقتْ الذخيرة في عنقي.