مَن يُمسِك عُروة الإبريق المُوقَدِ بإحكامٍ مرةً لا ينسى إحراقها ليدِهِ ما حيَا؛ يظلُّ بعدها في كل مرةٍ يُمسِكُها وهو مُتَوَجِّسٌ قلِق، لأشهرٌ و ربما لِسِنين، وحتى لو اعتادَ وزالَ خوفُهُ تظلُّ لحظةً راسٍ ألَمُها في نفسِه.
أحيانًا، يأتيك الخير على ظهر الشر، أيام معدودة، أعوام، ربما ساعة وينزل من على ظهره، يجلس أمامك ويمسح بيده الكمد الذي انتشر في وجهك، ينفض ثيابك من غباره ويُقدم لك الماء.
لم أكن أفكر في الأمر والآن لا أفكر إلا به. كل شيء يتغير وهذا ما كان يخيفني. أرغب فقط بالقفز نحو المستقبل البعيد لأعرف كل شيء ثم أعود حيث اللحظة وأترك "ماذا لو" التي لا يسببها غير الجهل فيما هو آت. لم تتغير الأشياء تغيرًا كليًا لكنها في مرحلة تحول، في بدايته، وأنا أعي هذا جيدًا.
في السابق لم أكن أشعر بالحنين نحو شيء بذاته، لأني كنت ذلك الذي أحن إليه الآن. أشعر بأنه أبعد ما يكون عني وأشعر بالزمن قد فعل فعلته. كم من أشياء كانت فيّ ولا أستطيع الآن استعادتها بأي شكل؟ وكيف تبدلت لهذا وذاك. لكني أفكر: ستظل الروح هي الروح وستعود لا محالة.
مع تقدّم الإنسان في مراحل العمر
تتبدّل طباعه وتتغير عاداته ويختلف أسلوبه في التعامل مع الحياة
تلك التحولات التي يمر بها تدفعه أحيانًا إلى الالتفات لما كان عليه سابقًا فيشتاق لذاته القديمة التي كانت أقرب إلى فطرته وبساطته.
هناك أيام يستوعب فيها المرء أن كل ما كان يملكه وينعم به ويحسبه من الضروريات كان ترفًا محضًا وأنّ عافية الأحبة وطمأنينة القلب هي المطمع والمبتغى وأثمن ما يريد وأجلّه.
يخادع المرء نفسه، ويعيش في متاهاتٍ شتى، يمر الخير بحياته، دون أن يتمكن من رؤيته أو إدراكه حتى يستقر في أعماقه، بينما إذا اقترب منه ما يضره، أبصره بعيون لا تُخطئ ورأى نفسه تتلف بسبب ذلك، رغم استمتاعه به، ثم لا يتجنب هذا الضرر..كأنما قتل نفسه بيده، وأصبح الجاني والضحية في آنٍ واحد.
ما عُدت أتخلّى، ولا أتمسّك، فلا أغرق في أوهامي، ولا أمجّد ما أحلُم به، آخذ فقط ما يأتيني، وما يكفيني، وما يُرضيني، وأُقصي عنّي كُل مالا أستسيغه..| تمضي الحياة ببضع ما أُحب، وبِضع ما يجعل هذا القلب مُطمئناً.
أرى العمر يكتظّ شيئًا فشيئًا وفراق أحبّتي لا زال ينهش قلبي ويفتّته، ثم يعيد تجميعه وتصميغه كأن كائنًا لم يكن، وتدوم الحياة على سائر البشر، منهم من ينعم فيها ومنهم من يشقى، ولابد أن نقنع.
هذا حال الدنيا.. ساعة وساعة في كل شيء؛ برغبةٍ منك أو رغمًا عنك، حتى في إقبالك على الدنيا ونفورك منها، المهم أن تُعطي كُل ساعةٍ حقّها؛ جدّها وهزلها، نِعمها وبُؤسها، بركتها ومحقها، عجلتها وتريُّثها، أزعم أنّ هذا من حقّ نفسك عليك.